كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر؛ يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء.
فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف.
كما قال عليه الصلاة والسلام: «ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم» وقد مضى القول فيه في سورة (الأنفال).
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين؛ كما قال عليه السلام: «إنا لا نورث ما تركناه صدقة» وقيل: كان مال الفيء لنبيّه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ} فأضافه إليه؛ غير أنه كان لا يتأثَّل مالًا، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله وبصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات؛ أما الآية الأولى فهي قوله: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} ثم قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني من أهل الكتاب معطوفًا عليهم.
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} يريد كما بيّنا؛ فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر: إنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بني النضير وما كان مثلها.
فهذه آية واحدة ومعنىً متّحد.
الآية الثانية قوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول.
وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة، ولاشك في أنه معنىً آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بَيْدَ أن الآية الأولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال، وعِريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال؛ فنشأ الخلاف من ها هنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصلح كله ونحوه.
ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال.
والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا؛ هل هي منسوخة كما تقدّم أو محكمة؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها أوْلى؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى.
ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلًا عن الآية على فائدة متجدّدة أوْلى من حمله على فائدة معادة.
وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} بني النضير، لم يكن فيها خمس ولم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب.
كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ حسب ما تقدم.
وقوله: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} هي قُريظة، وكانت قُريظة والخندق في يوم واحد.
قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قُريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ويلحقها النسخ.
وهذا أقوى من القول بالإحكام.
ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبيّنا أن الآية الثانية لها معنى مجدّد حسب ما دلّلنا عليه.
والله أعلم.
قلت ما اختاره حَسَن.
وقد قيل إن سورة (الحشر) نزلت بعد الأنفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدّمُ المتأخر.
وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مَغْنم، أوْ فيءٌ، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بيّن الله موضعه.
وهذا أشبه.
الثالثة الأموال التي للأئمة والوُلاة فيها مَدْخلٌ ثلاثة أضْرُب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات.
والثاني الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوًا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار.
ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له.
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها؛ حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في (براءة).
وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء؛ كما قال في سورة (الأنفال): {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، ثم نسخ بقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية.
وقد مضى في الأنفال بيانه.
فأما الفَيء فقسمته وقسمة الخمس سواء.
والأمر عند مالك فيهما إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فَعَل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قَسَمه كلَّه بين الناس، وسوّى فيه بين عربِيِّهم ومَوْلاهم.
ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يَغْنوا، ويعطوْا ذَوُو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام، وليس له حدّ معلوم.
واختلف في إعطاء الغنيّ منهم؛ فأكثر الناس على إعطائه لأنه حقٌّ لهم.
وقال مالك: لا يعطى منه غير فقرائهم، لأنه جُعل لهم عِوضًا من الصدقة.
وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء.
والخُمس يقسم على ما يقسم عليه خُمس الغنيمة.
قال أبو جعفر أحمد بن الدَاوُديّ: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصًا له، كما ثبت في الصحيح عن عمر مبيّنًا للآية.
ولو كان هذا لكان قوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} [الأحزاب: 50] يدل على أنه يجوز الموهوبة لغيره، وأن قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم.
وقد مضى قول الشافعي مستوعبًا في ذلك والحمد لله.
ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أن سبيل خمس الْفَيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين.
وله قول آخر: أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة؛ كما تقدم.
الرابعة: قال علماؤنا: ويُقسم كل مال في البلد الذي جُبيَ فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جُبِيَ فيه حتى يَغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جُبيَ فيه فاقةٌ شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أعوام الرَّمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة.
وقد قيل عامين.
وقيل: عامٌ فيه اشتد الطاعون مع الجوع.
وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير.
والفيء حلال للأغنياء.
ويسوّى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة.
والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة.
ويعطى منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم.
ويعطى منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلًا ويرزق القضاة والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين.
وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعًا.
ومن أخذ من الفَيء شيئًا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزى.
الخامسة: قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} قراءة العامة: {يَكُونُ} بالياء.
{دُولَةً} بالنصب، أي كي لا يكون الفيء دولةً.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام عن ابن عامر وأبو حيوة {تكون} بتاء {دُوَلةٌ} بالرفع، أي كي لا تقع دُولة. فكان تامة.
و{دُوَلةٌ} رفع على اسم كان ولا خبر له، ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} وإذا كانت تامة فقوله: {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} متعلق ب {دُولة} على معنى تداول بين الأغنياء منكم.
ويجوز أن يكون {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} وصفًا ل {دُولة}.
وقراءة العامة: {دُولة} بضم الدال. وقرأها السُّلَمِي وأبو حيوة بالنصب.
قال عيسى بن عمرو ويونس والأصمعيّ: هما لغتان بمعنىً واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدَّولة (بالفتح) الظفر في الحرب وغيره، وهي المصدر.
وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدُّولة اسم الشيء الذي يُتداول. والدَّولة الفعل.
ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنِموا أخذ الرئيس رُبْعها لنفسه، وهو المِرْباع.
ثم يصطفي منها أيضًا بعد المرْباع ما شاء؛ وفيها قال شاعرهم:
لك المِرباع منها والصفايا

يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية.
فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعًا.
السادسة: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الأخذ والغلول فانتهوا؛ قاله الحسن وغيره.
السدّي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه.
وقال ابن جُريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.
الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه؛ لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد.
قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله.
فهي ثلاثة أقوال.
السابعة: قال المهدوي: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ من الله تعالى.
والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها.
وقال الحكم بن عُمير وكانت له صحبة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن صَعبٌ مُسْتَصْعَبٌ عسير على من تركه يسير على من اتبعه وطلبه».
وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن.
ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة.
وأُمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.